تشهد المملكة العربية السعودية تطورًا لافتًا في قطاع التمويل المستدام، مدفوعة بتوجهات رؤية 2030 وحرص الدولة على التحول نحو اقتصاد أكثر استدامة وتوازنًا بيئيًا. وأكد تقرير اقتصادي حديث أن السعودية نجحت في تحقيق إنجاز غير مسبوق خلال النصف الأول من عام 2025، وذلك عبر استحواذها على ما نسبته 66% من إجمالي إصدارات السندات المستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بقيمة بلغت نحو 6.25 مليار دولار.
ويعد هذا الإنجاز دليلاً واضحًا على الدور المتنامي الذي تلعبه السعودية في السوق المالية الإقليمية والعالمية، وخاصة في مجالات إصدار السندات المستدامة، التي تشمل السندات الخضراء والاجتماعية والمربوطة بأهداف بيئية أو تنموية.
![]() |
السعودية تستحوذ على الحصة الأكبر من إصدارات السندات المستدامة في الشرق الأوسط خلال النصف الأول من 2025 |
السعودية في صدارة التمويل المستدام
بحسب البيانات الصادرة عن جداول تصنيف أسواق رأس المال من "بلومبرغ"، فقد سجلت المملكة العربية السعودية أكبر إصدار للسندات المستدامة خلال النصف الأول من العام الحالي بقيمة 1.58 مليار دولار من قبل الحكومة السعودية، مما يعكس التزام الدولة بإطلاق أدوات مالية جديدة تعزز من متانة القطاع المالي وتتماشى مع المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG).
ولم تقتصر الإصدارات على الجهات الحكومية، بل امتدت لتشمل القطاع المصرفي والمؤسسات المالية. فقد قامت مجموعة الراجحي بإصدار صكوك مستدامة بقيمتي 1.5 مليار دولار و200 مليون دولار على التوالي، مما يؤكد تزايد اهتمام القطاع الخاص بالمشاركة في مبادرات التمويل الأخضر.
كما أصدرت الشركة السعودية للكهرباء سندات مستدامة بقيمة 1.25 مليار دولار، في إطار جهودها لتعزيز مشروعات الطاقة النظيفة، بينما أطلق مصرف الإنماء إصدارًا بقيمة 500 مليون دولار، بالإضافة إلى إصدار البنك السعودي البريطاني لشريحة من رأس المال الإضافي (AT1) بقيمة 650 مليون دولار.
نمو ملحوظ في إصدار الأدوات الإسلامية المستدامة
تميّزت الإصدارات خلال هذه الفترة بتنوعها وارتباطها بالأدوات الإسلامية، والتي شكّلت الجزء الأكبر من إصدارات الديون المستدامة في المنطقة، حيث بلغت قيمتها الإجمالية نحو 6.8 مليار دولار. ويشير هذا الرقم إلى نمو بنسبة 17% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ما يؤكد المكانة التي باتت تحتلها السعودية ودولة الإمارات كمركزين عالميين في مجال التمويل الإسلامي المستدام.
ويُعزى هذا النمو إلى ارتفاع الطلب العالمي على الاستثمارات التي تراعي القيم البيئية والاجتماعية، خاصة في ظل التوجهات الحكومية في دول الخليج لتعزيز مشاريع الطاقة المتجددة، والابتكار في البنية التحتية، وتحقيق مستهدفات التنمية المستدامة.
أسباب الصدارة السعودية في سوق السندات المستدامة
تأتي صدارة السعودية في سوق السندات الخضراء والاجتماعية نتيجة لعدة عوامل استراتيجية، أبرزها:
- دعم القيادة السياسية: فقد أبدت الحكومة التزامًا قويًا بتعزيز الشفافية المالية وتوسيع نطاق الاقتصاد المستدام، ووفرت الدعم اللازم لتطوير البنية التحتية لسوق السندات.
- رؤية السعودية 2030: والتي تهدف إلى تنويع مصادر الدخل الوطني، وتحفيز الاستثمارات المستدامة، وتقليل الاعتماد على النفط، مما جعل التمويل الأخضر جزءًا رئيسيًا من سياسات الاقتصاد الوطني.
- قوة القطاع المصرفي: إذ يمتلك القطاع المصرفي في المملكة قدرات تمويلية وتنظيمية تمكّنه من إصدار أدوات مالية معقدة ومبتكرة، مثل الصكوك والسندات المستدامة، بالتوافق مع معايير التمويل الإسلامي.
- التحول الرقمي: الذي شهدته المؤسسات الحكومية والخاصة في المملكة، مما ساعد على تسريع الإجراءات، وتحقيق الشفافية، وتوفير تقارير إفصاح مفصلة عن استخدامات العوائد وتأثيرها البيئي والاجتماعي.
مقارنة بالأداء الإقليمي
رغم الأداء القوي للمملكة، فقد حافظت الإمارات العربية المتحدة على مكانتها كثاني أكبر مصدر للسندات المستدامة في المنطقة، بنسبة بلغت 34% من إجمالي الإصدارات، وبقيمة 3.22 مليار دولار. وشملت أبرز الإصدارات الإماراتية سندات من شركة الوطنية للتبريد المركزي بقيمة 700 مليون دولار، وشركة أمنيات بقيمة 500 مليون دولار.
لكن يُلاحظ تراجع إصدارات بعض الدول الأخرى في المنطقة، مثل مصر وقطر، نتيجة الظروف الاقتصادية وارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، مما قلل من زخم الإصدار خارج الخليج، وأسهم في تعزيز نسبة الحصة السعودية من إجمالي الإصدارات.
تراجع طفيف في إجمالي الإصدارات الإقليمية
ورغم الزيادة في الحصة السعودية، إلا أن التقرير أشار إلى أن إجمالي إصدارات السندات المستدامة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بلغ 9.47 مليار دولار خلال النصف الأول من 2025، وهو تراجع طفيف مقارنة بالفترة نفسها من 2024، والتي بلغت حينها 9.91 مليار دولار.
ويُعزى هذا الانخفاض الطفيف إلى ارتفاع أسعار الفائدة عالميًا، إضافة إلى تباطؤ بعض الأسواق الإقليمية في إصدار أدوات التمويل المستدام.
الشفافية والابتكار في سوق السندات
أشارت فينتي مولاني، أخصائية البيانات - الدخل الثابت المستدام في بلومبرغ، إلى أن سوق السندات المستدامة في السعودية والإمارات تمر بمرحلة "نضوج وتطور ملحوظ"، موضحة أن أكثر من 68% من الإصدارات خلال السنوات الثلاث الماضية تضمنت تقارير حول الأثر أو التخصيص، مما يعكس حرص المصدرين على تعزيز الشفافية.
وتوقعت مولاني أن تشهد المرحلة القادمة ابتكارات جديدة، مثل إطلاق السندات الرقمية الخضراء، والتي من شأنها رفع مستوى الثقة لدى المستثمرين وتسهيل تتبع العوائد والتأثيرات البيئية بشكل فوري وموثوق.
توقعات مستقبلية لنمو سوق السندات المستدامة في المملكة
يتوقع المحللون أن يواصل سوق إصدار السندات المستدامة في المملكة نموه خلال النصف الثاني من العام، خصوصًا مع اقتراب موعد تنفيذ المرحلة الأولى من بازل 3 في عام 2026، حيث تسعى البنوك إلى إصدار مزيد من أدوات رأس المال الإضافي لضمان الامتثال.
كما أن الطلب المتزايد من المستثمرين الدوليين على أدوات الدخل الثابت ذات البعد البيئي والاجتماعي يعزز من جاذبية السوق السعودي، في ظل الاستقرار المالي، والشفافية، والقوة التنظيمية التي تتمتع بها المملكة.
دور السندات المستدامة في الاقتصاد الوطني
تمثل السندات المستدامة أداة مهمة لدعم مشاريع التنمية المستدامة في المملكة العربية السعودية، وتمويل مشروعات كبرى في مجالات الطاقة النظيفة، والتعليم، والصحة، والنقل المستدام. وتعد هذه السندات ركيزة محورية في تحقيق أهداف السعودية المناخية، وتخفيض الانبعاثات الكربونية، ورفع كفاءة استخدام الموارد الطبيعية.
كما تسهم في استقطاب رؤوس الأموال الدولية الراغبة في الاستثمار في مشروعات ذات أثر اجتماعي وبيئي إيجابي، مما يعزز مكانة المملكة كمركز مالي إقليمي رائد.
الختام
إن التقدم الملحوظ في إصدار السندات المستدامة في السعودية يعكس رؤية طموحة لبناء اقتصاد متوازن، بيئيًا واجتماعيًا، ويعزز من مكانة المملكة في الأسواق العالمية كوجهة آمنة ومزدهرة للاستثمار في أدوات التمويل الأخضر. ومع استمرار التطورات التنظيمية والابتكارات المالية، يبدو أن المملكة ماضية بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافها التنموية والبيئية في آن واحد.