في موسم الحج، كل تفصيلة مهمة. فوسط حشودٍ تتجاوز المليون حاج، تصبح درجة الحرارة، سرعة الرياح، والرطوبة ليست مجرد أرقام على مقياس الطقس، بل عوامل مباشرة تؤثر على سلامة الأرواح وسهولة أداء المناسك. ولأن المملكة العربية السعودية تدير موسم الحج بأعلى درجات الاحتراف، جاء تفعيل المرحلة الثالثة من خطة المركز الوطني للأرصاد كمبادرة نوعية تستهدف المراقبة اللحظية لأجواء منطقتي جسر الجمرات والمسجد الحرام، وهي أكثر المواقع كثافة واختناقًا خلال الحج.
تقوم هذه الخطة على استخدام أحدث شبكات الرصد المناخي، التي لا تكتفي بتقديم نشرات عامة، بل تُقدّم بيانات تفصيلية لحظية تُحدث كل دقيقة تقريبًا، وتُرسل مباشرة إلى غرف العمليات الميدانية. في زمن تكون فيه الثواني حاسمة بين اتخاذ قرار تنظيم أو إعادة توجيه الحشود، تصبح دقة هذه البيانات عاملاً حيويًا، لا مجرد عنصر رفاهية أو توقع.
وبينما قد لا يشعر الحاج بهذه الجهود بشكل مباشر، إلا أنها تشكل العمود الفقري للقرارات التي تحميه، وتساعده على تأدية المناسك بأمان، سواء كان يتحرك في ظل شمس مكة أو يسير في ساعات الليل.
![]() |
أجواء موسم الحج 1446هـ |
الرقابة الجوية في المشاعر: خطة كاملة تغطي كل زاوية
أعلن المركز الوطني للأرصاد في السعودية تفعيل المرحلة الثالثة من خطته التشغيلية لموسم الحج 1446هـ، وهي المرحلة التي تركز بشكل خاص على أكثر المواقع حساسية وكثافة في الحج: جسر الجمرات والمسجد الحرام. وتغطي هذه المرحلة رقابة شاملة ومباشرة باستخدام محطات رصد متقدمة، تتنوع بين ثابتة ومتنقلة وأخرى أوتوماتيكية، بما يضمن تغطية مناخية بنسبة 100% لكامل المشاعر المقدسة.
ويكمن التميز هنا في عدم الاعتماد على محطة واحدة أو أدوات تقليدية، بل في وجود منظومة رقابية متكاملة تشمل:
- محطات متنقلة يمكن توجيهها لأي نقطة حسب الحاجة.
- محطات أوتوماتيكية تُحدث البيانات بشكل لحظي دون تدخل بشري.
- رادارات طقس تُراقب أنظمة الرياح وتيارات الهواء.
- صور الأقمار الصناعية التي تقدم رؤية ثلاثية الأبعاد للحالة الجوية الكلية.
- نماذج عددية تُحلل احتمالات التغير المناخي وتوجهات الطقس بدقة متقدمة.
والأهم من ذلك، أن كل هذه البيانات لا تبقى حبيسة المكاتب، بل تُرسل مباشرة إلى غرف عمليات ميدانية، خصوصًا في منى، حيث تُراقب فرق الأرصاد الأجواء على مدار الساعة. ويتم التنسيق في هذه الغرفة مع مختلف الجهات، مثل الدفاع المدني، الأمن العام، وزارة الحج، وهيئة الهلال الأحمر، ما يعني أن القرار الذي قد يتخذ بنقل أو إعادة توجيه مسار الحجاج في أي لحظة، لا يأتي إلا استنادًا إلى بيانات واقعية لحظية من قلب المشهد المناخي.
بهذه الطريقة، لا تُصبح التوصيات الأرصادية مجرد نشرات تقليدية، بل أساسًا لاتخاذ قرارات تشغيلية فورية، تضع سلامة الحجاج فوق كل اعتبار، وتُراعي دقة الحركة في كل شارع وزاوية داخل المشاعر.
التقنية في خدمة القرار: كيف تصنع الأرصاد الفارق ميدانيًا؟
قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن الرقابة الجوية لا تختلف كثيرًا عن نشرات الطقس التي نشاهدها على التلفاز، ولكن الواقع مختلف تمامًا، خصوصًا في الحج. فهنا لا نتحدث عن التوقعات العامة، بل عن قراءة تحليلية متقدمة للأجواء، تُسهم بشكل مباشر في قرارات مثل:
- فتح أو إغلاق بعض المسارات حسب درجات الحرارة وسرعة الرياح.
- إعادة جدولة الحشود إن وُجدت مؤشرات لارتفاع درجات الحرارة في فترة معينة.
- تنبيه الجهات الصحية إلى احتمالية وقوع حالات إجهاد حراري أو ضربات شمس في أوقات الذروة.
- رفع جاهزية فرق الطوارئ بناءً على تنبؤات دقيقة قد تشير إلى ارتفاع الرطوبة أو تدني مؤشرات الأمان البيئي.
ومن أبرز النجاحات الميدانية لهذه التقنية، ما يحصل في جسر الجمرات، وهو من أكثر المواقع حساسية من حيث إدارة الحشود. فمثلًا، في حال رصد ارتفاع غير اعتيادي في درجة حرارة السطح في وقت معين من النهار، يتم تنبيه الجهات المختصة لإعادة توجيه الحشود نحو طوابق مظللة أو تأخير حركة جزء منهم، ما يخفف من حدة الضغط ويقلل من الإجهاد الحراري.
ولأن الزمن الحرج لاتخاذ القرار قد لا يتجاوز بضع دقائق، فإن تحديث البيانات المناخية بشكل لحظي هو ما يصنع الفرق الحقيقي. ففي الحالات التقليدية، كان القرار يستند إلى توقعات سابقة قد لا تعكس الواقع المتغير بسرعة، لكن مع وجود هذه المحطات والأنظمة الرقمية المتقدمة، أصبح القرار دقيقًا، سريعًا، ومبنيًا على وقائع آنية.
كما ساعدت هذه المنظومة في إجراء دراسات طويلة المدى عن التغير المناخي في مناطق مثل عرفات ومنى ومزدلفة، مما يمنح الجهات التنظيمية تصورًا أدق لمواعيد الذروة، وشدة الحرارة، وأنماط الرياح، ومناطق الظل الطبيعية، وكلها تفاصيل تُستخدم لاحقًا لتطوير الخطط الموسمية عامًا بعد عام.
خاتمة: مراقبة اجواء موسم الحج ... بأعلى درجات الدقة
في ظل التحولات المناخية العالمية، أصبحت الرقابة الجوية الدقيقة ضرورة لا غنى عنها في أي حدث جماهيري كبير، فما بالك بموسم الحج الذي يُعد الحدث الأكبر عالميًا من حيث الحشود والتنقلات البشرية في نطاق جغرافي ضيق؟ ومع تفعيل المرحلة الثالثة من خطة المركز الوطني للأرصاد، أثبتت المملكة أنها لا تترك شيئًا للمصادفة، بل تبني قراراتها على علم وتحليل وخبرة.
فبين كل خطوة يخطوها الحاج في مشعر منى، أو وهو يطوف في المسجد الحرام، هناك فريق من المختصين يعمل بصمت خلف الشاشات، يُراقب مؤشرات الطقس، يقرأ الصور الحرارية، ويترجمها إلى توصيات تُسهم في حماية الأرواح وضمان السلاسة في أداء الشعائر.
ومع استمرار تطوير هذه المنظومة، يمكن القول إن السعودية تضع معيارًا عالميًا جديدًا في دمج الأرصاد الجوية مع إدارة الحشود. فهنا، لا يُستخدم العلم لمجرد التنبؤ، بل لخدمة الناس في لحظات قد تكون فارقة بين السلامة والخطر، بين الراحة والمشقة.
إن هذا النهج المتكامل، الذي يجمع بين الرصد اللحظي، التنسيق الفوري، واتخاذ القرار الميداني المدعوم بالبيانات، هو ما يجعل موسم الحج السعودي تجربة إنسانية وتنظيمية متفردة. وليس من المبالغة القول إن كل حاج، حتى دون أن يشعر، تدعمه شبكة معقدة من الجهود التي تراقب السماء من أجله، وتبني له طريقًا آمنًا وسط الزحام.